کلمة الأستاذة الدکتورة وسام علي الخالدي في ندوة مثنوي العقل والعشق
کلمة الأستاذة الدکتورة وسام علي الخالدي
أستاذة جامعة الکوفة – العراق
فيندوة مثنويالعقل والعشقللشاعر أ.د.محمدخاقاني أصفهاني
جامعة سونان کالیجاکا الإسلامية الحکومیة - أندونیسیا – 27 مایو 2025
يا لها من لحظةٍ بهيّة حين تتعانق الأرواح على ضفاف الحكمة، وتُشرَع النوافذ على عطر الكلمة، وتلتمع المصابيح في محراب الفكر العاشق. فمرحبًا بكم في حضرة العشق والعقل، حيث تتفتّق المعاني، وتُهدهدنا أنغام المثنوي، ويصير الحرف جسرًا بين الشرق والشرق، بين طهران وبغداد والقاهرة ويوغياكارتا.
تحية طيبة نزفّها من القلب إلى قسم الدكتوراه في تعليم اللغة العربية بكلية العلوم التربوية وتأهيل المعلمين في جامعة سونان كاليجاكا الإسلامية الحكومية بإندونيسيا، هذا الصرح النابض بحب العربية، الساعي إلى توطين الفكر وترسيخ الجمال في أرض الألفة والعلم. لقد أكرمتمونا بدعوتكم، وزيّنتم سماء اللغة بندوة تُحاكي النور، حول كتابٍ هو في ذاته مرآةُ عشقٍ ومحرابُ عقل. فشكرًا لكم على هذا الجهد النبيل، وهذه الرؤية التي تجعل من العربية موئل لقاءٍ لا يعترف بالحدود، وفضاءً تُرفرف فيه أرواح الفكر العاشق والباحث المتأمل.
في "مثنوي العقل والعشق"، ينسج محمد خاقاني أصفهاني نسيجًا شعريًا مزدوج اللغة، تتعانق فيه العربية والفارسية كما تتعانق الروح بالجسد، وكما يتعانق العقل بالعشق في مسرحية فلسفية شعرية نادرة المثال. هذا العمل الفريد، الذي ينبثق من قلب شاعر متمكّن وفكر ناقد بصير، يشكّل مسرحًا رحبًا للجدل الأبدي بين قطبين لطالما تداخلت حكاياتهما واحتدمت معاركهما في الوعي الإنساني: العقل بما يحمله من برهان ونظام، والعشق بما ينطوي عليه من انخطاف وتجاوز.
فالخاقاني لا يكتفي بتصوير الصراع، بل يُبدع مسرحًا شعريًا خياليًا يجمع "السيد العقل" و"السيدة العشق" في حضرة الوحي، وكأنّه يُقيم محكمة كونيّة يحضرها أكابر المفكرين والعشاق عبر العصور. فالمشاهد الشعرية تنبض بالجدل الحيّ، وتفيض بلغة عالية التركيب، تتماوج فيها الحكمة مع اللوعة، والفكر مع الوجدان. أسلوبه يتميّز بجزالة اللفظ، وتماسك البناء، وكثافة الرمز، بحيث يخلق نصًا مفتوحًا على تعدد التأويلات. القصائد تتدفق بإيقاعٍ موزونٍ دقيقٍ )بحر الرمل المحذوف(، مما يُضفي على الحوار المسرحي طابعًا غنائيًا ساحرًا يذكّرنا بمثنويات العصور الذهبية، مع بصمة معاصرة تنبض بهموم الزمن وتطلّعاته.
"مثنوي العقل والعشق" ليس مجرد استعادة لصراع قديم، بل هو نقد مرير لحضارة معاصرة تاهت بين تجريد العقل وعنفوان العشق، حتى فصلت الإيمان عن المعرفة، والروح عن العلم. لذلك جاءت هذه القصيدة بمثابة دعوة للاتّحاد بين العقل والعشق، اتّحاد ينقذ الحضارة من تفككها، والإنسان من شتاته. في هذا المثنوي، يقف خاقاني كرسول عشق وعقل، يزرع كلماته في تربة الأرواح العطشى، ويترك للقارئ مهمة إكمال المسرحية، كأنّه يقول: "أنا بدأتُ الحكاية، وأنت أيها الإنسان، أكملها في ضميرك وأحلامك"...
إنه عمل شعري-فلسفي مشبع بصدق التجربة، وجمال اللغة، وعمق الرؤية. ومما يزيده فرادة ترجمته الشعرية العربية المبدعة، التي لم تكن نقلًا آليًا، بل إعادة خلق حي بلغة ثانية. "مثنوي عقل وعشق" هو نشيد الفكر والروح، وسفرُ الباحثين عن الوحدة الكبرى بين العقل والعشق. وهكذا، يضعنا خاقاني أمام مرآة وجودنا، لا لننظر إلى ملامحنا العابرة، بل لنحدّق عميقًا في تلك الفجوة الوجودية التي تفصل بين حسابات العقل ولهيب العشق. في لحظات من التأمل النقي، يتحوّل النص إلى تعويذة تُعيد ترتيب علاقتنا بالكون، وتجعل من اللغة وسيلة عبور نحو الذات العليا، حيث لا سلطان إلا للصدق، ولا حكم إلا للمعنى.
"مثنوي العقل والعشق" لا يقتصر على سبر أغوار النفس، بل يفتح أفقًا فلسفيًا للحوار الحضاري، إذ يعيد التفكير في الثنائيات الكبرى: هل العقل خصم للعشق أم حليفه؟ وهل العشق جنونٌ أم صورةٌ أعلى من صور الوعي؟ وهل يمكن للإنسان أن يبلغ كماله إلا إذا مشى على ساقي العقل والعشق معًا؟ بهذا المثنوي، تتجلّى رسالة الشاعر لا كموقفٍ شعري فحسب، بل كمشروع معرفي-وجداني، يسعى إلى تصحيح مسار الإنسانية، وتحريرها من أحادية الفكر وجفاف العاطفة. إنه يُنشد وحدة لا تُلغي الاختلاف، بل تُحيله إلى ثراء، وتُحوّل التوتر إلى إيقا عٍإبداعي، كأن الحياة نفسها قصيدة يجب أن تُروى بميزان القلب وميزان العقل معًا.
ومن الناحية الجمالية، فإن ازدواج اللغة بين العربية والفارسية ليس ترفًا لغويًا، بل مقصود فنّي يحمل في طيّاته روحًا تصوّفية تتجاوز الحدود، وتعكس وحدة الوجود اللغوي والثقافي، حيث تتجاور الحضارات لا لتتنازع، بل لتتلاقى في تجربة جماليّة وفكريّة واحدة. وفي زمن تتصدّع فيه المعاني، وتُختزل فيه الروح إلى وظائف ماديّة، يأتي "مثنوي العقل والعشق" كترياقٍ شعريّ يُعيد للقصيدة رسالتها الأولى: أن تكون موطنًا للحقيقة، وملاذًا للإنسان الباحث عن جوهره.
حين نقرأ "مثنوي العقل والعشق"، لا نقرأ نصًّا مغلقًا من زمن غابر، بل نقرأ أنفسنا... نقرأ هشاشتنا البشرية، وانقسامنا السرمدي بين قطبين يتجاذبان كياننا منذ الأزل: قطب المنطق وقطب العاطفة. نقرأ هذا العمل كما نقرأ صلاة في ليلٍ طويل، أو كما نصغي إلى أغنيةٍ تنبع من أعماق الوجدان. محمد خاقاني أصفهاني، بهذا العمل، لم يكن شاعرًا فقط، بل كان مهندسًا للروح، صانعًا لجسرٍ بين العقل والعشق، بين الحكمة واللهفة، بين الشرق والشرق الأقصى... فقصيدته المزدوجة اللغة لم تُولد لتُفهم فقط، بل لتُعاش، ولتُستشعر في مسامات الفكر والروح.
نعم، لقد واجه خاقاني أسئلة العصر، وأعاد طرحها على خشبة الشعر، فأصبح النصّ ليس مجرّد تعبير عن صراع، بل مشاركة في صناعته، ودعوة لتجاوزه. وفي عالمنا اليوم، الذي كثرت فيه التجزئة والقطيعة، وقلّ فيه التأمل، تبدو الحاجة ماسّة لمثل هذا الصوت، الذي يذكّرنا أن المعرفة لا تُثمر بلا محبة، وأن العشق بلا عقل يُضل الطريق.
ختامًا...
ليست "مثنوي العقل والعشق" مجرد قصيدة تُقرأ، بل شعلة تُقتبس، ونورٌ يسري في العروق لمن شاء أن يرى بعين البصيرة. إنها مرآة الذّات الإنسانيّة حين تتصدّع بين فكرٍ بلا دفء، ووجدانٍ بلا بوصلة. وهي في الوقت ذاته، دعوةٌ إلى التئامٍ داخليّ، إلى مصالحةٍ بين الضدّين، بين منطق العقل ونشوة العشق، في زمنٍ بات فيه الإنسان أكثر اغترابًا عن نفسه.
في هذا المثنوي، لا يهمّ أن نكون من أهل البرهان أو من أهل الوجد، بل أن نكون من أهل الإصغاء... الإصغاء إلى نداء باطنيّ يقول لنا:
"إنك لا تكتمل إلا إذا احتضنتَ النورَ والنار، الفكرَ واللهفة، الحجّةَ والحدس، لتصير إنسانًا بكل ما فيك من عقلٍ يعقل، وقلبٍ يعشق".
فلتكن هذه القصيدة سراجًا لنا في ليالي التيه،
ولنحملها معنا كزادٍ لمن أراد أن يسلك درب الإنسان الكامل، ذاك الذي لا ينحاز لطرفٍ دون آخر،
بل ينسج من العقل والعشق معًا عباءته الكبرى... وعبوره الأسمى.
والسلام على من عشق بعقله، وأحبّ بفكره، وسعى إلى وحدة لا تنقسم.
الأستاذة الدكتورة وسام علي الخالدي/ العراق.